مكنسة الساحرة

المقدمة

لاتزال تلك العوالم التي التصقت في ذاكرتي وانا صغير تأخذني الى فهما بشكل اعمق ، وكأنني اريد ان افهم طفولتي التي عشت ، لذا كتبت مرارا عن الامور الفنتازية التي احاول منها فك تلك الشيفرة التي علقت في ذاكرتي بكم القصص التي كنت اشاهدها وانا طفل ، دون ان ترمش عيني من الدهشة والفرحة التي تأسرني وانا استمتع بجاك وحبات الفاصوليا وفطر اليس في بلاد العجائب وشجرة عيد الميلاد وسانتا كلوز ، وساحرات القصص التي تطير بالمكنسة ، وعصا الساحر الحكيم ، والقبعة المدببة….الخ ، ربما محاولاتي الان لاتخرج عن حنين الى عالم الطفولة لاني كنت اشاهد القصص دون مرشحات عقلية وتفسيرية لتلك القصص ، ولكن حين كبرت للاسف زادت الامور تعقيدا فبت ابحث عن حل لايتجاوز كلمة (لما؟) وتهت في ميلاد القصة واصلها وجذورها في الشعوب ، انستني متعة المشاهدة وانا طفل امام التلفاز ، لتستبدل الان ربما بمتعة اقل بكثير من تلك ، هي البحث والاستدلال وتتبع الحقيقة التي كونت قصص الخيال الجميلة..

الصعوبة الاكبر التي اواجهها الان ، اني لا استطيع شرح اصول هذا لطفل يستمتع بمشاهدة افلام كارتون لاني ساشوه خياله النقي ، بمقررات جافة يمليها عقلي المتعب ، فاصبحت اجلس مع الاطفال لمشاهدة الافلام تلك واشاركهم وانا مليء بالدهشة والمتعة دون ان اضيع تلك الفرحة بالتحليل ، فكل ذاك يجب ان اكتمه باحكام امام الاطفال وامام نفسي وانا استمتع معهم بالمشاهدة..

هذا اليوم وجدت في النت صورة ، جعلتني اقلب صفحات الذاكرة واردد:-

انها مكنسة الساحرة الشريرة

هذه المكنسة التي اصبحت قرينة السيدات الشمطاوات الشريرات ، يقف خلفها الف حكاية اضطهاد للمرأة ومحاكم سيئة الصيت تتهمهم بالسحر والشعوذة ، ويأخذني التحليل كيف استبدل المجتمع الامومي بالمجتمع الذكوري والخطابات الدينية المتنوعة التي ترسخ لهذا وتنبذها او تجعلها بالدرجة الادنى وكيف استبدلت الصورة والفكرة وتغير المسار..

بيسوم – بيزوم مكنسة الساحرات وهي ضمن التعريف الاصطلاحي جاءت من لفظ انجليزي قديم besma التي تعني المكنسة فاصبحت besom لكن كيف تحولت من اداة منزلية هامة بيد ربة البيت للتنظيف والتطهير الى اداة سحرية تمتطيها ابشع الساحرات ليلا بعد دهانها بمرهم سحري للتنقل والطيران مع خفافيشها او قطتها السوداء لصنع الفوضى وعواصف باردة من الصقيع او بحثا عن ضحايا جدد؟

قد تكون محاولاتي الان هي اعادة لصور الطفولة وسحريتها ، بالكشف عن ان الجاني هو المجني عليه..

وللطفولة بقية كما ان للحديث بقية ..

 

اسطورة مكنسة الساحرة الشريرة

ليس هناك أي توثيق تاريخي واضح متى تم اختراع المكنسة نفسها لأول مرة ، لكن عملية الكنس تعود إلى العصور القديمة مؤكد ، وكان الناس يستخدمون حزما من العصي الرفيعة من الأشجار والالياف والقصب في كنس الاتربة والغبار في منازلهم ولتنظيف الرماد الذي يخلفه الموقد ومن هنا انتقل الى التحول الذي طرأ على المكنسة التي ارتبطت بالساحرة والذي بدوره لا اجد فيه أي إشارات واقعية مسجلة كمشاهدة لطيران الساحرة على المكانس ، انما للقصة تلك جذور متعددة في البلدان الاوربية كان في اوربا قديما ان النساء يضعن المكانس على عتبة بابهن الخارجي يخبر الناس ان ربة البيت ليست في المنزل ، فالسيدات كن قد غادرنا المنزل ، ولم يطرن كما تقول الخرافات..

علماء الانثربولوجية كان لهم رأي مخالف لتلك القصص الشعبية والخرافية المروية ، بأن جذورها تعود لطقس احتفالي بالخصوبة والوفرة الزراعية في أراضيهم كانت تمارس في اوربا قبل المسيحية ، لذا هي ضمن الوثنية القديمة فقد كان المزارعون الريفيون يرقصون ذكوراً واناثاً فوق المكانس في الأراضي المزروعة وكلما كانت القفزة اعلى كان الهدف منها ان ينمو المحصول بارتفاع كبير تشجيعا لنمو المحاصيل ، لهذا ترتبط المكنسة بالوثنية القديمة بالمنزل وربات البيوت من جهة كما وكانت ضمن الاحتفال بزفاف أو ولادة طفل جديد أو حصاد وفير، كان المحتفلون “يقفزون فوق المكنسة” طلباً للحظ السعيد ، وعادةً ما يفعلون هذا والقمر بدرا***.

هذه الحوادث بررت لاوربا المسيحية ان تسقط عليها تأويلات هي (الشيطنة) ولم تستثني ان يكون الفعل مخلا بالاخلاق باعتبار ان الساحرات زوجات الشياطين وان ركوبهن للعصا تمثل جنسي…الخ وهي محاولات كنسية لتطهير المجتمع الأوربي من بقايا الفكر الوثني السابق.

قد يكون اول سجل تاريخي حول المكنسة يعود الى شخصية ايرلندية ثرية وهي سيدة ارملة تدعى أليس كيتلر 1324أبان محاكمتها بالسحر فقد قال المحققون انهم وجدوا عصا ومرهم تقوم بدهن العصا ومن هنا ولدت كلمة (الساحرات زوجات الشيطان) كون الامر كان ينظر اليه كفعل فاحش بين العصا واحتكاكه بالمهبل ، ولهذا الامر جذور أخرى اعمق من الرأي العام الأوربي كونه كان احد الممارسات الوثنية بالفعل بالعلاج بالاعشاب وصنع المراهم العلاجية من خلال دهن العصا بمرهم عشبي معين يحدث اثر احتكاكه بالمهبل لكن الجرعة الزائدة من العلاج تحدث حالات من الهلوسة الكبيرة وهذا الطقس يضمن ركضهن والعصا بين ساقهن ، فكان المصطلح هو (ركوب العصا) قبل ولادة مصطلح الطيران بالعصا ، فالامر حتى ذلك الزمن هو عصا وليس مكنسة ..

حين ولدت فكرة الطيران بالعصا واقترانه باعمال الساحرات لم يكن ذلك الا ركوبا على العصا وليس المكنسة ، وحين أدخلت المكنسة كأيقونة دالة على فعل الساحرات بالطيران نجد انه ركوب المكنسة كان والفوهة –قش المكنسة- من امامهن وليس خلفهن ، وحالة قلب المكنسة لم اجد لها اثر يستدل عليه كتاريخ دقيق ، فكيف حدث هذا؟ انه على الأرجح ضمن العصور الوسطى التي كانت بعد 1450 ميلادي ففي حلول عام 1451 كانت هناك رسوم توضيحية للمخطوطات تُظهر نساءً يحلقن في الهواء على عصا بيضاء عادية ولم يكن في الرسوم مكنسة انما العصا فقط وكانت تلك الرسومات في المخطوطات تُظهر هؤلاء النساء على أنهن دينسيات ، أعضاء طائفة مسيحية وصفتها الكنيسة الكاثوليكية بالهرطقة ترجع للكاهن دينيس الذي يسمح للنساء ان يصبحن كاهنات ، لكن لاتوجد أي إشارة لتلك الطائفة بركوب العصا أصلا ،وليس ركوب العصا دينيسية بأي شكل من الاشكال انما هو اسقاط من خيال فنان.

اثر هذا التراكم الحكائي والشعبي ولدت صورة قاتمة للنساء اللواتي يتهمن بالسحر والشعوذة والاعمال المشينة والقبيحة على انهن ساحرات يطرن بالمكانس وهنا نحن في قلب القرون الوسطى في اوربا التي يعتقد الناس فيها على نطاق واسع أن الساحرات نساء يمارسن جميع أنواع الفحش والشر والقبح ، بما في ذلك الجماع المباشر وغير المباشر مع الشيطان ، وكانت هذه كفيلة بالتصفيات الجسدية والمحاكم سيئة الصيت وارتبطت الساحرات بالمكانس منذ ذلك التاريخ ، مكانس القش (بيسوم).

 

المكنسة من العلاجات العشبية الشامانية الى التهمة الايروتيكة

يتشعب امر المكنسة من حيث هي عصا وبين فكرة طرحت من قبل الباحثين عن جذورها وحقيقتها لتركن الى رأي مستقل وهو المدرسة الشامانية الاوربية في استخدامها للمهلوسات والاعشاب في العلاجات ، ففي الويكا الحديثة التي تستمد جزء كبير من طروحاتها من المفاهيم السحرية القديمة نجد مصطلح (مرهم الساحرة) وهو اسم محمول بمفاهيم اكثر تعقيدا مما هو متداول ضمن رواقهم الطقسي والتطبيقي لان الأصل من المرهم كان علاجيا ، المرهم في حقيقته كاستخدام على العصا لم يكن امراً سحري بل كان تطبب بالاعشاب من خلال المهبل لدى المرأة لذا حصرت هنا قصة المكنسة بالسيدات دون الرجال ثم اسقطت على السحر فكانت الساحرة –الانثى- راكبة المكنسة ، فأين حقيقة كل ذلك؟

العلاج العشبي هو التطبب الأكثر شيوعا في الحضارات والمدنيات الصغيرة او الكبيرة ويرجع الامر الان الى اشكال كبير هو الخطأ الذي وقع فيه مترجم التوراة والذي هو نص يقول:-

اقتلوا الساحرة

وبالاصل فإن الكلمة تقول (اقتلوا صانع السموم) لانه من الخطر وجوده في المجتمع والاسم من حيث الجذر هو (صانع الأعشاب) وليس من المنطقي ان النص التوراتي يأمر بقتل طبيب الأعشاب ، انما يأمر بقتل صانع السموم الذي هو يقوم بأستخلاصها من الاعشاب ، تحولت الكلمة بعد ذلك بسبب الترجمة الخاطئة الى اقتلوا الساحرة فكانت تدشيناً صريحا بتصفية الساحرات في اوربا.

النساء اللواتي يستخدمن المرهم والعصا هن طبيبات حكيمات بالاعشاب حرفيات وليسوا مجرد نساء ، ما كان يحدث انهن يصنعن مرهما خاصا بالنساء اللواتي يشعرن بالغثيان وتهيج القولون والامراض المعوية المؤلمة وعلاج دورات الطمث والحالات النفسية…الخ من خلال استخدام مجموعة من النباتات التي فيها مادة السكوبولامين والهيوسين التي ينتجها نوع من النباتات من العائلة الباذنجانية السام المعروف باسم (اتروبا بيلا دونا) سميته اخطر بالجرعات الفموية ، فكان يعمل منه لتفادي سميته الجرعات المهبلية من خلال صنع مرهم كدهان يضعونه على العصا ، والاشكال الذي حدث في هذا ان الجرعات الزائدة من تلك المواد تسبب الهلوسة والتخدير وتأثيرها على الجهاز العصبي مباشرة لذا تعتبر من ادوية العلاج النفسي ، وفي عصرنا الحالي أدخلت مادة السكوبولامين في علاج مرض الزهايمر.

الاجراء العلاجي بالمرهم والعصا اسقط من قبل الكنيسة ووظفت العصا والمرهم بالكامل ضمن محاورها في محاربة الشر والسحر والمحاكمة التي اقامتها للقضاء على الساحرات واستأصال الوثنية الاوربية والفكر الخرافي ، فحولت ركوب العصا الى انها جماع –استعارة العصا كقضيب- واحداث نشوة من قبل السيدات اللواتي قررن ان يتزوجن الشيطان! ، فتحول الفعل العلاجي بنظرها الى فعل فاحش مخل بالاخلاق والقيم المجتمعية الايمانية ومن هنا بدأت قصة مكنسة الساحرات لتحمل في طياتها ضمن الرؤية الكنسية فعلا فاحشا –أخلاقي- وفعلا قبيحا –اعتقادي- ضد المسيحية.


***يشير الشاعر والباحث في السحر روبن سكيلتون (1925-1997) إلى أن الارتباط بين الساحرات والمكانس قد يكون له جذور في طقوس الخصوبة الوثنية، حيث كان المزارعون الريفيون يقفزون ويرقصون على الأعمدة أو المذراة أو المكانس في ضوء البدر لتشجيع نمو محاصيلهم. وتكتب أن “رقصة عصا المكنسة” هذه قد اختلطت بالقصص الشائعة عن الساحرات اللواتي يطيرن ليلاً في طريقهن إلى حفلات الجنس الجماعي وغيرها من اللقاءات غير المشروعة.

ملخص المنشور

  • علماء الانثربولوجية كان لهم رأي مخالف لتلك القصص الشعبية والخرافية المروية ، بأن جذورها تعود لطقس احتفالي بالخصوبة والوفرة الزراعية في أراضيهم كانت تمارس في اوربا قبل المسيحية ، لذا هي ضمن الوثنية القديمة فقد كان المزارعون الريفيون يرقصون ذكوراً واناثاً فوق المكانس في الأراضي المزروعة وكلما كانت القفزة اعلى كان الهدف منها ان ينمو المحصول بارتفاع كبير تشجيعا لنمو المحاصيل ، لهذا ترتبط المكنسة بالوثنية القديمة بالمنزل وربات البيوت من جهة كما وكانت ضمن الاحتفال بزفاف أو ولادة طفل جديد أو حصاد وفير، كان المحتفلون “يقفزون فوق المكنسة” طلباً للحظ السعيد ، وعادةً ما يفعلون هذا والقمر بدرا***.
  • بيسوم – بيزوم مكنسة الساحرات وهي ضمن التعريف الاصطلاحي جاءت من لفظ انجليزي قديم besma التي تعني المكنسة فاصبحت besom لكن كيف تحولت من اداة منزلية هامة بيد ربة البيت للتنظيف والتطهير الى اداة سحرية تمتطيها ابشع الساحرات ليلا بعد دهانها بمرهم سحري للتنقل والطيران مع خفافيشها او قطتها السوداء لصنع الفوضى وعواصف باردة من الصقيع او بحثا عن ضحايا جدد؟.
  • الاجراء العلاجي بالمرهم والعصا اسقط من قبل الكنيسة ووظفت العصا والمرهم بالكامل ضمن محاورها في محاربة الشر والسحر والمحاكمة التي اقامتها للقضاء على الساحرات واستأصال الوثنية الاوربية والفكر الخرافي ، فحولت ركوب العصا الى انها جماع –استعارة العصا كقضيب- واحداث نشوة من قبل السيدات اللواتي قررن ان يتزوجن الشيطان.
  • ***يشير الشاعر والباحث في السحر روبن سكيلتون (1925-1997) إلى أن الارتباط بين الساحرات والمكانس قد يكون له جذور في طقوس الخصوبة الوثنية، حيث كان المزارعون الريفيون يقفزون ويرقصون على الأعمدة أو المذراة أو المكانس في ضوء البدر لتشجيع نمو محاصيلهم.
  • ، فتحول الفعل العلاجي بنظرها الى فعل فاحش مخل بالاخلاق والقيم المجتمعية الايمانية ومن هنا بدأت قصة مكنسة الساحرات لتحمل في طياتها ضمن الرؤية الكنسية فعلا فاحشا –أخلاقي- وفعلا قبيحا –اعتقادي- ضد المسيحية.

اكتشاف المزيد من شريف هزاع

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.