القسم الثالث : مقدمة في الديستوبيا المعاصرة
انهيت تعريف المكان فلسفيا في القسم الاول والثاني واجد انه قدم رؤية كافية لفهم المكان الا انني ارجع الى كلمة قلتها في القسم الثاني ممهدا للخروج من الطرح الجاف للرؤية الفلسفية ، وهي القنطرة التي نعبر منها الى موضوع المكان من طابعه الفلسفي والتأصيلي الى الانساني وهو تغير مفهومنا للمكان من الاقليدية والديكارتية التي تراه (موضع) الى تجاوزه كمركزية بطليموسية او كوبرنيكوسية وهو تحوله على يد غاليلو على انه (امتداد) ومبحثني يهتم بالمكان ويدرسه على انه محمول باليوتوبيا – المكان المثالي- فالمقال يرصد ويدرس:–
1- مفاهيم المكان الروحي على اعتبار انه يوتوبي حاضر عبر الزمان في المكان.
2- المكان اليوتوبي كفضاء مؤثر ولا اقوم بتحليله على انه نظام مجتمعي ودولة.
على ضوء ذلك فإن رؤيتي للمكان هنا تنطلق من مجموعة التغيرات الفكرية التي طرأت في الثورات العلمية القديمة التي اثرت في تكوينها وظهورها او التي لها اثر في صياغة الكثير من الافكار التي تخص البناء المعماري للمدينة الحديثة ، لاجد انه هناك في واقعنا المعاصر قد حدث فصل او شرخ بين مفهوم ثنائية الزمكان والفضاء واختلاف المفهوم الانساني عن العلمي كثيرا ، فاصبح هناك قسم يهتم بالرجوع الى الزمن الماضي من خلال المكان المتجانس مع القيم الزمنية التي يحملها او التي لاتغادره ويعيش فيها رغم انه بمكان لاتجانسي ، والثاني يؤطر اسس وركائز للخلق مكان مستقبلي من زمن –اللحظة- منسلخا عن استلهام المنحى الروحي والنفسي بقدر تعويله على العلمي والتكنلوجي وهذا برأي هشاشة الزمان وصلادة المكان او ما اطلق عليه فوكو اللاتجانس المكاني ، فنجد في العمارة الحديثة فكرة تجانس الكتل الكونكريتية وليس تجانس المكان مع الانسان ، الاماكن المعاصرة هي حالة من الانزياح عن الاماكن ذات البعد الزمني المسجونة ضمن العلمي والتقني والهندسي البحت ، فالهندسة المعمارية الحالية تهتم بالتلاعب بالفراغات وتدرس العمارة على انها تجريد مكون من علاقات تقنية بين الحمولة والشكل في البناء وخلق المجسم ككتلة في الفضاء ، لكنها لم تتخلص من الاقليدية والديكارتية ومركزية الكتلة والتي هي اصلا اساسي وفي البدء بالتأكيد ولايمكن تجاوزها في عملية البناء ، ولكنها جرجرت كل ذلك الجمود الهندسي ولم تتخلص منه حتى النهاية ، وساطلق عليها مجازا هنا عمارة بمركزية بطليموسية او عمارة بمركزية كوبرنيكوسية وكلاهما لايخرج عن القيم مركزية التقنية والتكنلوجية والهندسة المجردة التي تهتم بفكرة المجسمات في الفراغ ، المركزية البطليموسية هي فن العمارة الافقية المتمثلة بالتجمعات والمدن خارج المدينة وهي اسقاط فكرة الريف بصورة حضرية معاصرة تتمثل بالبناء الافقي الذي يعالج افتقار المدن العملاقة للطبيعة من خلال خلق ريف مغاير (امكنة اخرى) تعالج فكرة المدينة والاطراف ، في حين ان المركزية الكوبنيكوسية هي البناء العامودي وسباق العمارة المرتفعة جدا المتمثلة بناطحات السحاب والابراج السكنية الشاهقة الارتفاع يعالج اوهام الاتصال بالاعلى بالانفصال عن الارض او خوف السكن بالاسفل من خلال الانفصال عنه على اعتبار ان الاسفل ديستوبيا – عكس اليوتوبيا-.
اجد ان المحاولات في بناء انموذج معماري – المعاصر- جاء بمجمله ليعالج الامتلاء في الفراغ والمزاحمة لكن كل تلك المحاولات لم تخلق الثنائية الواجب ان تكون وهي الزمان والمكان انها وان نجحت في بناء المكان ككتله فشلت في دمج الزمان مع المكان ففي اي عمارة عريقة معمارياً الان احساسنا بها من الداخل او الخارج اننا نكون بحالة انفصال عن الزمان الحالي منساقين لزمان تخيلي مستقبلي وهذا برأي خلل لانه لم يعالج المتطلب الروحي الذي يجب ان يكون في المكان ودون هذا فإن تلك العمارة والامكنة لم تكون الا ديستوبيا معاصرة مضادة لفكرة اليوتوبيا ليس بمعنى انه خراب ، فالعمارة المعاصرة تمتلك كل مقومات التقنية والعلمية في تكوينها الا انها فساد امكنة فما تعمله هو ايجاد طرق هندسية لمليء الفضاء بشكل ذي الابعاد الثلاثة بطريقة بحتة وليس من مفردات يتم صياغتها بفهم هندسة الكتلة بالفراغ وعلاقتها بالروح الانسانية ، فلو جاز لنا اطلاق اصطلاح البعد الرابع هنا للمكان ذي البعد الثلاثي فسوف اعتبر الانسان هو ذلك البعد المكمل لفهم الابعاد الثلاثة وهذا ماتفتقر له العمارة الحديثة حين نراها من الداخل سيدهشنا ذلك التلاعب الفذ بالكتلة والمجسمات والانحناءات ورغم انها علميا وتقنيا تعتبر في غاية الاتقان الا انها مكان مضاد – ديستوبيا- المكان الحقيقي المتجانس هو الذي يقدم ثنائية متوازنة اكون انا فيها راصدا او جزء منها ، وحين نفكر بالمكان فنحن نفكر فيه زمنيا والعكس اي سيكون في النهاية هو تحولي الى البعد الرابع المكمل لفكرة المكان والعمارة وتكوينها.
ولازال القسم الاكبر منا يقول العمارة القديمة اجمل واذا استرسل بالحديث سيقول:- فيها روحانية وتأثير ، وهو لايعلم انه في المكان القديم يشكل جزء من العملية الهندسية للمكان لانه كان اسقاطا للبعد الرابع المضاف للابعاد الهندسية المجسمة ، فالمكان لم يكن مجرد طول وعرض وارتفاع ، ورغم انبهارنا بالعمارة الحديثة لكن رؤيتنا للمكان لاتتعلق بهندسة الفراغ وتلاصق الكتل بل لاننا نجد انفسنا بعدا مكملا لهندسة المكان ، بينما لانقدر ان نشكل او نكون ذلك البعد في العمارة الحديثة ونشعر اننا في حالة غياب رغم الحضور.
لازال بيت جدي في مخيلتي مدينة من السحر والجمال رغم انه بيت شرقي عتيق مكون من ثلاث غرف بفناء مفتوح بالوسط مبني من الطوب والجص المتآكل بسبب الريح والمطر.. كذلك يقبع في باطنك اجرام مكانية تشكل سموات الروح ، فلكل منا يوتوبيا يركن لها وتعالج فساد الامكنة الموغلة بالتعقيد الهندسي في الزمن الحديث كون لتلك الامكنة بصمات روحية لانقول انها تتعلق بالطفولة او انها انعكاس شرطي لحالة حنيننا للطفولة ، فالامر يحدث متطابقا لو دخلت في يوم الى بيت ريفي بسيط من غرفة وفناء مفتوح لايحوي اي هندسة فذة.. اذا المكان لايتعلق بتشكيل الفراغ والكتلة والزوايا ولعبة الظل والنور..الخ بل بتشكلك واندماجك بالفراغ ذاك..
ملخص المنشور
- 1- مفاهيم المكان الروحي على اعتبار انه يوتوبي حاضر عبر الزمان في المكان.
- 2- المكان اليوتوبي كفضاء مؤثر ولا اقوم بتحليله على انه نظام مجتمعي ودولة.
اكتشاف المزيد من شريف هزاع
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

